بين ثنايا مدينة سلا استقرت أسرة سمية في حي صفيحي بعد أن لفظتهم البادية بكل قسوة , تتكون الأسرة من الوالد و خمسة أبناء أكبرهم سمية , فتاة عشرينية تنتظر من يطرق بابها للخروج من حياة العزوبية . . . خِلقة جميلة و أخلاق أجمل , أناقتها تكمن في حجابها و حسن هندامها , مستواها الدراسي لم يتعدى حجرات الإعدادية و مع ذلك ثقافتها لا محدودة و فطنتها تتضح لكل من حاورها أو فتح معها أبواب النقاش , تهتم بشؤون المنزل من الألف إلى الياء منذ وفات والدتها الفجائي , ماتت الأم بعد وضعها لآخر العنقود أنور الذي وجد في أخته سمية أمّه التي لم يشتم لها رائحة . . .
نفس روتين الحياة منذ سنوات يعم أرجاء البيت , يستيقظ الأب باكرا و يقصد ورشته للخياطة و الأبناء لا شيء يلهيهم عن دراستهم بعد وجبة الفطور التي تهيئها سمية , التوأم أحمد و خديجة إلى الثانوية و سعيد إلى الإعدادية و أنور تأخذه أخته الأم إلى باب المدرسة و تعود لتبقى وحيدة بين جدران المنزل , فبعد أن تنهي كل الأشغال و تجهز وجبة الغداء تعطي لنفسها قسطا من الراحة أمام التلفاز أو تصفح بعض الكتب و المجلات . . .
فعلا إن الوقت كالسيف , بل هو قطار أسرع من عاصفة هوجاء , إنه عرس خديجة التي أنهت مشوارها الدراسي في السنة الجامعية الثانية و ها هي تدخل القفص الذهبي من أوسع أبوابه و بالشاب الذي أحبته و أحبها , أما سمية فدخلت إلى متاهة التفكير و بحزن شديد و حسرة مؤلمة في تعاستها , كيف لا ؟ و هي ترى الخريف الثاني و الثلاثين يحاصر عمرها و مع ذلك لم تيأس يوما و لم تقنط من رحمة الله , تعتني بأخيها أنور و تشعره بحنان الأم الذي لم يعرفه إلا منها , أحمد اختار التجنيد كي يضمن دخلا مستقرا و نافعا لإخوته و خصوصا سمية التي أفنت عمرها عليهم . . .
في صيف 2006 سافرت سمية و أخويها أنور و سعيد إلى مدينة وجدة عند خالتها زهيرة , و هناك تعرفت على نجلاء , فتاة جميلة غير أنها أكثر تفتحا من ناحية المظهر بحيث تجدها شبيهة و متشبهة بالغربيات في اللباس و تسريحات الشعر و طريقة الكلام , تعمل في صالون للحلاقة و لم تجد نصفها الآخر بعد . . . لها عدة تجارب مع كثير من الشباب , و مع ذلك لا زال الحظ لم يحالفها للقاء شريك الحياة المناسب , كانت تجيد استعمال الحاسوب و ارتياد مواقع و غرف الدردشة , تعرفت على كم هائل من العقليات و الأشخاص من مختلف بقاع العالم . . . توطدت العلاقة بين سمية و نجلاء و صارت صديقتها الحميمة في أقل من شهر , تبادلتا الأسرار و الهموم و الدموع و كل واحدة ارتاحت للأخرى , و عندما حان وقت العودة إلى الديار اقتنت سمية حاسوبا بعد أن علمتها نجلاء بعض حيله و كيفية استعماله و أنشأت حسابا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك , هذا كله كان من أجل ألا تنقطع الأخبار بينهما و يكون التواصل دائما . . .
مرّ على ذلك السفر أكثر من سنة , و التواصل كان شبه يومي بين سمية و نجلاء , و زيادة على ذلك تعرفت سمية على العديد من الأصدقاء و الصديقات الجدد في وقت قياسي , و من بينهم يونس ابن مدينة مراكش , كان أقرب إليها عاطفيا و هي كذلك , علاقتهما جيدة يتخللها الحب و الاحترام . . . يونس هو الابن الوحيد لوالديه , يسير وكالة أسفار خاصة و يمتلك مقهى جل مرتاديها شباب و شابات يبحثون عن الهدوء , أمه نموذج للمرأة المغربية العصرية المحافظة و هي أستاذة متقاعدة كانت تدرس اللغة العربية و والده من عشاق الأسفار و الرحلات و هو ضابط سابق في الجيش المغربي , إنها الأسرة البسيطة السعيدة ميسورة الحال في المغرب , تنقصها فقط فرحة رؤية يونس متزوجا . . .
إنه العام 2010 و يونس يحل ضيفا على مدينة سلا من أجل لقاء الفتاة التي تعلق قلبه بها , فبعد سنتين من التواصل على الفايسبوك و الهاتف و بالصوت و الصورة ها هو ذا لقاء الحبيين يتم على أرض الواقع بعيدا عن الافتراض , كانت فرحة يونس و سمية لا توصف عندما عانقا بعضهما و كل واحد منهما لمس جسد الآخر , خيم الصمت على جل أجواء اللقاء , و كانت النظرات و الابتسامة كفيلتين بلم حروف سريالية منبعها قلبين يملؤهما الحب من حيث لم يدروا ذلك , ميز اللقاء الوعد و التعهد من الطرفين ألا يفرق بينهما شيء في الدنيا . . .
اليوم هو الخميس الأخير من شهر أبريل 2011, الزغاريد تملأ أرجاء منزل سمية , إنه يونس و والديه و المناسبة هي حفل خطوبة صغير حضره أهل و أصدقاء العائلتين , تم توثيق الزواج شرعا و قانونا , و بقي فقط حفل الزفاف الذي حدد في صيف العام ذاته
استمرت حياة سمية بشكل عادي مع فرحة و سعادة أكثر من السابق , لكن شيء ما تغير في طباعها و تصرفاتها , سواء في عالمها الواقعي بين أحضان البيت أو عالم الانترنت بزعامة الفايسبوك , كأنه غرور أو ثقة زائدة في شخصيتها , علاقاتها الكثيرة مع أصدقاء الفايسبوك جعلتها تكذب في كثير من الأحيان و توهم الكثيرين رغم أنها لم تكن لها نوايا سيئة تجاه أحد , مع أنها تحب يونس الذي أصبح زوجها قانونيا إلا أنها استمرت في محادثاتها مع الشباب خصوصا رياض , و هو شاب من نواحي مدينة تطوان يعيش متغربا في بلجيكا , كان التواصل بينها شبه يومي و غالبا ما كان بالصوت و الصورة . . .
رياض لا يعلم بخبر زواجها لأنها أخفت عنه الأمر , وما كان عليه إلا أن يخبرها أنه سيزور المغرب عما قريب لخطبتها , و بما أن الأمر بين يديها حببت إليه الفكرة و ظهرت لها آفاق أخرى غير المغرب , و آثرته على يونس الذي لا زال قاطنا بدار غفلون تحت سطل يجهل مصدره
يونس يحب سمية و هي زوجته رسميا , رياض يحبها و قلبه تعلق بها و من أولويات أموره عند نزوله إلى المغرب هي الظفر بحبيبته كما وعدها , و سمية بدأت أمورها تختلط على إبليس و أفكارها لم يعد ملك الجان يقوى على تفسيرها أو مسايرة نواياها التي صارت تضمر خبثا من فتاة كانت مثالية . . .
يوم العرس اقترب و رياض حل بالمغرب و طلب لقاء سمية , و كان له ما أراد عندما التقيا , بعد تجاذب أطراف الحديث في لقاء كان مطولا , أخبرته أنها مخطوبة من شخص لا ترغب فيه , و أنها كانت تحت إكراه من والدها و لم تستطع فعل شيء سوى الموافقة , و أنها تحبه هو و لا تريد إنسانا آخر في حياتها , فكانت هذه الكلمات بمثابة رصاصات على حين غرة منه , لكنه استمسك نفسه و تفهم موقفها رغم أنها لم تخبره من قبل بالأمر . . .
قرر رياض أن يعود إلى بلجيكا , لكن هذه المرة رفقة سمية التي آثرت الفكرة و أحبت قرار حبيبها الشجاع , عندما حان وقت الرحلة و بدون تردد و في سرية تامة غادرت سمية أرض الوطن و تركت وراءها كل ما يربطها بيونس الذي وثق بها و لم يبخل عليها بشيء طلبته إياه , و كذلك لم تخبر فردا من أسرتها و كانت أنانية في قرارها و ارتأت أن تعيش مع غرباء البشر على أن تعيش رفقة أهلها و أسرتها
. . .
محمد لخبيزي . الأحد 18 ماي 2014
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق