الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

المتمرّد . .




كُنتُ إنساناً . . كُنتُ طفلا بريئا . . طيفٌ للأخلاق الفاضلة , و إبن بارّ لزوجين مسلمين من طبقة المجتمع المتوسطة . .
كبُرتُ و بلغت العشرين من العُمر , و عندما نظرت خلفي تحسّرت كثيرا على طفولتي التي مرّت سريعا , العفوية و البساطة و التخلّق بأخلاق الإسلام الجميلة و النباهة و التفكير الإيجابي و العمل الإيجابي و التفوق و إفاذة الغير بما لي و الاستفاذة من الغير بكلّ ما ليس لي و الطّموح إلى الوصول , كنت فقط أطمح إلى القمة , قمة كل شيء هي الهدف و المبتغى بالنسبة لطفل ذكي . . تلك كانت طفولتي المضمحلّة
وراء دفّّتي العقد الثاني لي في الدنيا
كسائر أطفال الطّبقة الشعبية الطاغية على المغرب الطّبقي من حيث العدد , مرّت طفولتي السعيدة . .
لعبتُ البِيّ , الطرومبية , غمالة , غمّايضة , حابة , كرة القدم من ماسّة و وْسيطة إلى فريق ضد فريق , شفّارة_بوليس . .
كوّنت صداقات كثيرة مع الجنسين ,مارست هواياتي بكل حرية , تعلّمت الكثير من الأشياء بمفردي و باجتهادي و كدّي و مثابرتي حتّى وصلت إليها و فُقتُها
حفظت القرآن و أحكمت قراءته و ألِفت الصلاة بالمسجد و مرافقة أبي إلى مجالس الذّكر مع الصالحين
طفل مُطيع لوالديه محبوب من الجيران و الأقارب , كنت دائما انتظر سفري السنوي إلى البادية لزيارة جدّي على أحرّ من الجمر شوقا . .
عودةً إلى سنّ العشرين . .
طالبٌ جامعي بكليةٍ تعرفتُ بها على أصدقاء جدد , عقليات جديدة , أفكار جديدة , إيديولوجييات جديدة و الأهمّ أني صِرتُ متمرّدا على كل شيئ . .
تمردت على القانون و التشريعات و زِغت عن المُعتقدات و التقاليد و كسّرت قيود العقليات التقليدية و آمنت بالحرية المطلقة للانسان
تغيّرت أفكاري و تضبّبت معتقداتي و أصبحتُ شابا حداثيّا حرّا يتحرّك مع التيار العلماني رفقة أصدقائي و صديقاتي من الطلبة الأحرار . . تغيّرت طباعي مع والديّ و قلّ حُبّ الناس لي , و هذا زادني تمرّدا على مجتمع تقليدي مبني على تبادل المصالح . .
الحياة بالحيّ الجامعي الذي أوَيتُ إليه تُشبه إلى حدّ ما حياة البرّية , كل شيئ مباح و الانحطاط كثير , القويّ يعلو على الأضعف منه , و الضعيف يخدِمُ من يفوقه قوّة , الفساد لا حدّ له و لا صدّ عنه من طرف الفتيات اللائي بِعن و اشترين في أجسادهن و أخلاقهنّ , أقلّ الشباب قُبحا في أفعاله يحترف النشالة و سرقة الأشياء البسيطة و أخطرهم له مجموعة يقتحمون الفيلات و محلاّت التجار الكبار . .
الحشيش و الخمر و المخدّرات الثقيلة و معاشرة الطالبات المومسات . . هذا ما اعتدته ليلا رفقة شِلّة الشر التي أنتمي إليها , لا نؤمن بالفضيلة و لا نعترف بالشريعة و لا نعرف القانون و لا ندري ما الانسانية . .
وصلت سنّ الثلاثين و قد تركت الجامعة بعد أن وجدت عملا في إحدى الشركات الخاصة
التسكع و الفوضوية و التمرد ترسّخوا في شخصيتي و شخصي , أموالي الحلال و الحرام أخلطها و أترجمها إلى المخدّرات و بنات الليل و لا أوفّر شيئا
بقيت أسبّ الدين و ألعن الملتزمين و أمقت المثاليين الفاضلين و أحارب النظام و التنظيم و أتعسّف على الضعاف من بشر و حيوانات
عند سن الأربعين , كنت قد زرت السجن خمس مرات , و لم يزدني ذاك إلا جبروتا و طغيانا و الحُكَِرة على الحيّ و الشيئ هي سيفي الذي أقوّض به الأخلاق و أنشر به الرذائل بين أوساط ضعاف العقول من الفتيان و الشباب الباحثين عن المتعة و الحرية المطلقة . .
كبُرت و ضعُفت و خرّت قواي , قلّ بصري و رشيَ ساعدي و تآكل عَظمي و شاب رأسي و ابيضّت لحيتي , أما والديّ فماتا منذ زمن بعيد دون أن أعرف عنهما شيئا , و أصدقائي و شلّتي و صديقاتي . . كلهم تلاشوا و غابوا و صاروا سرابا
التمرد الذي عشته و ناشدت به , و الحرية الذي ارتميت بين أحضانها و الحداثة . . كل شيئ فات و انقضى
أما عن جحودي بِنعم الله و إلحادي بالخالق العظيم , و مطالبتي بأن العقل هو كل شيئ في الحياة و نسياني الموت و الضعف و الهوان و العقاب و حياة الخلود . . فكلّها حاصرتني و حاصرتي عقلي الضعيف
مرّت حياتي خاوية و لم أستفذ منها شيئا , أحببت الدنيا و التمرد و لم أستفذ منهما شيئا
صِرت مخبولا شريدا بين الشوارع , أفترش المتلاشيات من الملابس و الأوراق و ألتحف السماء متوسّدا مرفقي . .

محمد لخبيزي



ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2015 منشور